سورة الأنعام - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)}
اعلم أنه تعالى لما تكلم، أولاً: في التوحيد، وثانياً: في المعاد، وثالثاً: فيما يقرر هذين المطلوبين ذكر بعده ما يتعلق بتقرير النبوة وبدأ فيه بأن بين كون هؤلاء الكفار معرضين عن تأمل الدلائل، غير ملتفتين إليها وهذه الآية تدل على أن التقليد باطل. والتأمل في الدلائل واجب. ولولا ذلك لما ذم الله المعرضين عن الدلائل.
قال الواحدي رحمه الله: من في قوله: {مّنْ ءَايَةٍ} لاستغراق الجنس الذي يقع في النفي كقولك ما أتاني من أحد والثانية وهي قوله: {مّنْ ءايات ربهم} للتبعيض والمعنى وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار إلا كانوا عنه معرضين.


{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)}
أعلم أنه تعالى رتب أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب، فالمرتبة الأولى: كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل والتفكر في البينات، والمرتبة الثانية: كونهم مكذبين بها وهذه المرتبة أزيد مما قبلها، لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذباً به، بل يكون غافلاً عنه غير متعرض له، فإذا صار مكذباً به فقد زاد على الأعراض، والمرتبة الثالثة: كونهم مستهزئين بها لأن المكذب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حد الاستهزاء، فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في الانكار، فبين تعالى أن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب.
واختلفوا في المراد بالحق فقيل إنه المعجزات: قال ابن مسعود: انشق القمر بمكة وانفلق فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة، وقيل إنه القرآن، وقيل: إنه محمد صلى الله عليه وسلم وقيل إنه الشرع الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم والأحكام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وقيل إنه الوعد والوعيد، الذي يرغبهم به تارة ويحذرهم بسببه أخرى، والأولى دخول الكل فيه.
وأما قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يستهزءُن} المراد منه الوعيد والزجر عن ذلك الاستهزاء، فيجب أن يكون المراد بالأنباء الأنباء لا نفس الأنباء بل العذاب الذي أنبأ الله تعالى به ونظيره قوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} [ص: 88] والحكيم إذا توعد فربما قال ستعرف نبأ هذا الأمر إذ نزل بك ما تحذره، وإنما كان كذلك لأن الغرض بالخبر الذي هو الوعيد حصول العلم بالعقاب الذي ينزل فنفس العقاب إذا نزل يحقق ذلك الخبر، حتى تزول عنه الشبهة. ثم المراد من هذا العذاب يحتمل أن يكون عذاب الدنيا، وهو الذي ظهر يوم بدر ويحتمل أن يكون عذاب الآخرة.


{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (6)}
اعلم أن الله تعالى لما منعهم عن ذلك الإعراض والتكذيب والاستهزاء بالتهديد والوعيد أتبعه بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة في هذا الباب فوعظهم بسائر القرون الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وغيرهم.
فإن قيل: ما القرن؟ قلنا قال الواحدي: القرن القوم المقترنون في زمان من الدهر فالمدة التي يجتمع فيها قوم ثم يفترقون بالموت فهي قرن، لأن الذين يأتون بعدهم أقوام آخرون اقترنوا فهم قرن آخر، والدليل عليه قوله عليه السلام: «خير القرون قرني» واشتقاقه من الأقران، ولما كان أعمار الناس في الأكثر الستين والسبعين والثمانين لا جرم قال بعضهم: القرن هو الستون، وقال آخرون: هو السبعون، وقال قوم هو الثمانون والأقرب أنه غير مقدر بزمان معين لا يقع فيه زيادة ولا نقصان، بل المراد أهل كل عصر فإذا انقضى منهم الأكثر قيل قد انقضى القرن.
واعلم أن الله تعالى وصف القرون الماضية بثلاثة أنواع من الصفات:
الصفة الأولى: قوله: {مكناهم فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} قال صاحب الكشاف مكن له في الأرض جعل له مكاناً ونحوه في أرض له ومنه قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض} [الكهف: 84] {أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ} [القصص: 57] وأما مكنته في الأرض، فمعناه أثبته فيها ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ} [الأحقاف: 26] ولتقارب المعنيين جمع الله بينهما في قوله: {مكناهم فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} والمعنى لم نعط أهل مكة مثل ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا.
والصفة الثانية: قوله: {وَأَرْسَلْنَا السماء عَلَيْهِم مِدْرَاراً} يريد الغيث والمطر، فالسماء معناه المطر هاهنا، والمدرار الكثير الدر وأصله من قولهم در اللبن إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير فالمدرار يصلح أن يكون من نعت السحاب، ويجوز أن يكون من نعت المطر يقال سحاب مدرار إذا تتابع أمطاره. ومفعال يجيء في نعت يراد المبالغة فيه.
قال مقاتل {مِدْرَاراً} متتابعاً مرة بعد أخرى ويستوي في المدرار المذكر والمؤنث.
والصفة الثالثة: قوله: {وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ} والمراد منه كثرة البساتين.
واعلم أن المقصود من هذه الأوصاف أنهم وجدوا من منافع الدنيا أكثر مما وجده أهل مكة، ثم بيّن تعالى أنهم مع مزيد العز في الدنيا بهذه الوجوه ومع كثرة العدد والبسطة في المال والجسم جرى عليهم عند الكفر ما سمعتم وهذا المعنى يوجب الاعتبار والانتباه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة بقي هاهنا سؤالات:
السؤال الأول: ليس في هذا الكلام إلا أنهم هلكوا إلا أن هذا الهلاك غير مختص بهم بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضاً قد هلكوا فكيف يحسن إيراد هذا الكلام في معرض الزجر عن الكفر مع أنه مشترك فيه بين الكافر وبين غيره.
والجواب: ليس المقصود منه الزجر بمجرد الموت والهلاك، بل المقصود أنهم باعوا الدين بالدنيا ففاتهم وبقوا في العذاب الشديد بسبب الحرمان عن الدين.
وهذا المعنى غير مشترك فيه بين الكافر والمؤمن.
السؤال الثاني: كيف قال: {أَلَمْ يَرَوْاْ} مع أن القوم ما كانوا مقرين بصدق محمد عليه السلام فيما يخبر عنه وهم أيضاً ما شاهدوا وقائع الأمم السالفة.
والجواب: أن أقاصيص المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا هذه الحكايات ولمجرد سماعها يكفي في الاعتبار.
والسؤال الثالث: ما الفائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم.
والجواب: أن الفائدة هي التنبيه على أنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلكهم ويخلي بلادهم منهم، فإنه قادر على أن ينشئ مكانهم قوماً آخرين يعمر بهم بلادهم كقوله: {وَلاَ يَخَافُ عقباها} [الشمس: 15] والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8